عامل بلا أجر - حسين خضّور

كل منا لديه اهتمامات مختلفة عند أول لحظة استيقاظ من النوم، وغالباً أول شيء ننظر له هو الجوال، وهذا ما قام به فارس. فحدّقَ بالشاشة ولم يجد أي إشعار، ففتح سريعاً تطبيق البنك على الرغم من إدراكه أنه لن يجد ما كان قد انتظره بترقب منذ البارحة. صفر يورو، هكذا كان حال حسابه البنكي؛ فلم يصل أجره. نهض وبدأ بكتابة رسالة إلى الشركة التي يعمل بها، وقد استغرقت كتابتها أكثر من ساعة، بسبب مستواه المتوسط في اللغة الألمانية وعدم قدرته على الاستناد إلى المترجم.
فارس كان أُمِّيّاً باللغة العربية، لكنه استطاع أن يصل إلى مستوى متوسط باللغة الألمانية في أقل من ثلاث سنوات. المكان الجديد فرض هذه الضرورة، ويمكن القول إن مرحلة تعلم اللغة الألمانية خزنت بذاكرة فارس في قسم الذكريات الممتلئة بالجمال، وبالأخص أول لحظة نظر فيها إلى اسمه على الورقة، حيث كان يرسم اسمه مثل رسام يرسم لوحة بورتريه — هكذا قالت المعلمة في الصف. احتفظ ذو الخمسة والثلاثين عاماً بهذه الورقة مثلما يحتفظ الطفل بشيء ساحرٍ كان قد اكتشفه في الطبيعة.
كان كل شيء يسير على ما يرام قبل الدخول في فصل الخريف. كان فارس في بداية التدريب المهني، ويعمل عملاً هامشياً مستخدماً دراجته الهوائية في توصيل طلبات الطعام مع الشعور بالأمل أن معاملة لم الشمل لابنته الصغيرة، مجدولين، سوف تنتهي قبل شهر الميلاد. هذه المعاملة كانت قد طالت كثيراً بسبب تأخر صدور قرار منحه حق اللجوء.
مع بداية الخريف، زار المرض مجدولين، مما وضع الأب أمام ضرورة العمل المُضني لتأمين مصاريف عمليتها، فتخلى فارس عن التدريب المهني وتحول عمله الهامشي في شركة مايم لتوصيل طلبات الطعام إلى ثلاث ورديات في اليوم، كل وردية مدتها أربع ساعات، ودون أي عطلة أسبوعية. عقد العمل الحر يسمح بذلك في النمسا، ويسمح بالنقيض، أي أن تعمل وردية واحدة في الشهر. في هذا العمل بالتحديد، لا تحاسب الشركة العامل على الساعة، وإنما على كل طلب طعام يقوم بتوصيله. أسوأ ما في الأمر، أن العامل يوافق عقداً على أنه لن يتلقى أجراً خلال المرض، وليس هناك إجازات مدفوعة بالسنة، ولا حتى أجر إضافي عند العمل في العطل، أو حتى ما هو شائع هنا: راتبان إضافيان في السنة.
على الرغم من كل ذلك، كان الشيء المهم بالنسبة لفارس هو أن عملية مجدولين كانت قد نجحت، وها هي تتعافى يوماً بعد يوم. لم يكن ذاك العمل شاقاً بالنسبة لفارس في البداية، فحبه لابنته كان بمثابة مخدر. لكن خلال آخر أسبوعين، تسرب شعور بالضيق لم يقدر ذاك المخدر التراحمي أن يثبطه. فما كان قد اقترضه من شركة متخصصة بذلك كان ثقيلاً عليه، بسبب إدراكه أن الاقتراض هنا بهذا الشكل مختلف عن الاقتراض من جاره أبو محمود.
البارحة ازداد الوضع سوءاً، فكان من المفترض تسديد الدفعة الأولى من القرض، بعد أن استنفد كل الفرص في المماطلة، وبالطبع مع تحمل غرامات التأخير. ما عقد الأمر هو أن شركة مايم تدفع الأجر لعمالها في منتصف الشهر. لكن فارس كان يخفف عن نفسه ويقول: "ماذا كان سيحدث لو كنت في سورية ولم أكن هنا؟ كيف كنت سأستطيع تأمين هذا المبلغ للعملية؟ كل ما علي فعله هنا هو العمل؟"
هذا الشعور تبدل نسبياً اليوم، فبعث فارس بالرسالة، وانطلق إلى العمل مع شعوره بالغبن أن يكون عاملاً بلا أجر.
***
الشيء الجيد في العمل أن العامل يستطيع أن يباشر عمله من باب منزله، وموقع شقة فارس الصغيرة لا تبعد عن مركز المدينة حيث هناك الكثافة في طلبات الطعام، فإنه يسكن في فيينا الحي الخامس عشر بشارع يدعى هيتلدورف، في القسم الشعبي منه. ربما شعر فارس أن هذا الشارع يشبه أحد شوارع جرمانا في دمشق، مما خلق لديه شعوراً بالألفة.
فتح فارس باب شقته، فوقعت الدمية التي كانت تستند عليه، وسمع صوتاً اعتاد عليه يقول للدمية: "لا تزعلي يا حبيبتي فأنا بالقرب منك". كان هذا صوت جاره غريب الأطوار الذي أخبر فارس في أول لقاء بينهما أن هذه الدمية هي زوجته.
تجاهل فارس جاره كالعادة، واتجه نحو دراجته، وقام بفحص سريع ليتأكد إذا كان قد نسي شيئاً. ثم ذهب إلى باب العمارة، وفتح التطبيق وضغط على بدء العمل، مستلماً أول طلب من ماكدونلز. رغم سوء الطعام، كان هذا مطعمه المفضل، لأنه لا يجعل عامل التوصيل يهدر وقته بالانتظار — أي طلبات أكثر وأجر أكبر. أوصل الطلب إلى شقة في شارع ميرتس، مما جعله يشعر بالراحة أكثر لاقترابه من مركز المدينة.
استلم طلبه التالي من مطعم تايلندي في المحطة الغربية. في دقيقتين أصبح هناك، وقام بقفل الدراجة بالقرب من حائط مواجهٍ لمحطة القطار. ريثما كان ينتظر الطلب، وصلت رسالة من شركة القروض إلى بريده الإلكتروني. فتحها كمن يترقب سماع حكم القضاء عليه. قرأها أكثر من مرة، وتنفس بهدوء. لم تذكر الرسالة استدعاءه إلى القضاء، فقد أعطت الشركة فارس آخر مهلة لتسديد الدفعة الأولى مدتها نهاية الأسبوع القادم، وبالطبع مع دفع غرامة التأخير. "كل شيء سيجري على ما يرام"، هذا ما قاله فارس لنفسه عندما كان يضع الطلب في الحقيبة الحافظة للطعام.
ضغط في التطبيق للتأكيد على استلام الطلب من المطعم، ووضع عنوان الزبون على تطبيق الخرائط، وقال: "يا سلام العنوان قريب من هنا". ذهب إلى دراجته وفتح قفلها، وإذ برجل أمن المحطة يعترض طريقه. لم يفهم للحظة الأولى ماذا كان يريده رجل الأمن هذا. فإنه يضع الكمامة ولم يرتكب أي خطأ، ولكن الحالة المبهمة تكشفت من خلال المحاضرة التي قام رجل أمن المحطة بإلقائها عليه والتأكيد على جملة ممنوع أن تضع دراجتك هنا.
كان هناك مساحة لوضع الدراجة ولم تكن بأي شكل من الأشكال تعيق مرور الناس، لكن رجل الأمن نهره: "يجب أن تضع الدراجة في المكان المخصص لها، حتى لو كنت تريد أن تدخل إلى المحطة لدقيقة واحدة".
حين اعتذر فارس، قام رجل الأمن بإفساح الطريق له، فانطلق إلى عنوان الزبون حاملاً على ظهره حقيبة الطعام وفي داخله شحنة سلبية خففت قيادة الدراجة من أثرها. وصل فارس إلى شارع ماريا هيلفا. دخل العمارة ودخل المصعد ليذهب إلى شقة الزبون في الطابق السابع.
"هذا أكل هوا"، تأفف فارس حين لم يعمل المصعد دون مفتاح. صعد فارس الدرج حتى وصل إلى الطابق السابع. "صحة وهنا"، قال للزبون، ثم خرج من العمارة واستلم طلبه التالي، ونفذه، والذي يليه، ونفذه. هكذا إلى أن انتهت كل ورديات العمل.
عاد فارس إلى شقته الصغيرة، وتعشى، ثم نام نوماً خفيف، مترقباً سماع صوت أي إشعار من الجوال.
***
لم يصل رد الشركة، والأمر ليس بالغريب على فارس، فهو يعلم أن العامل لديهم لا يحصل على رد قبل 48 ساعة. انطلق فارس إلى العمل مرةً أخرى، محاولاً التأقلم مع هذا الوضع. ساعده الطقس في ذلك اليوم على الاسترخاء قليلاً. فحينما تكون السماء زرقاء، ونور الشمس ساطعاً، والحرارة دافئةً، والريحُ مجردَ نسيمٍ؛ فإن هذا بالنسبة لعمال التوصيل مثل حالة الانسجام التي يصل لها شخص يمارس اليوغا في الطبيعة.
في ذلك اليوم، نفذ فارس عمله بشكل أسرع وأكثر سلاسةً. كان آخر طلب له في مطعم برلينر دونر في الحي السابع. فجاًةً، تبدل لون السماء من أزرق إلى أسود، وبدى القمر برتقالي اللون. قام فارس بالدوران بالشارع لكي يأخذ الطريق إلى زقاق زيغلير، وأثناء قيادته للدراجة بالسرعة المسموح بها، تذكر مرةً كلام أحد زملائه في دورة اللغة: "إن البنك لا يقوم بتحويل المال في أيام العطل". أبعد عن ذهنه تلك الذكرى من خلال تفريغ طاقة أكبر في قيادة الدراجة، وإذ به يصطدم بشاب كان يريد أن يقطع الشارع.
ساعد بعض الناس فارس والشاب على النهوض، وكلنا نعلم أن الحالة الغريزية لدى الإنسان في هكذا حادث هي التأكد إذا كان هناك جروح خطيرة. لكن هذه الغريزة تبدلت لدى فارس، فأول شيء أراد أن يطمئن عليه هو دراجته، مصدر رزقه.
كان يسمع الناس تقول له، "هل أنت بخير"، وهو ينظر إلى أن الدولاب الأمامي المكسور.
"نعم أنا بخير"، أجاب ثمَّ سأل الشاب من هو المسؤول عن هذا الضرر.
جاءه الرد هادئاً: "أنت المسؤول، ولكنني بخير ولا أريد أن أستدعي الشرطة".
لم يكن فارس يعلم من تسبب بالحادث، فوضع ملحاً على جرحه، وقرر تحمل كلفة إصلاح الدراجة لوحده. بعدما ذهب الشاب، جلس فارس على حافة الرصيف، وتواصل عبر تطبيق الشركة مع الموظف المسؤول عن هكذا أمور.
"هل أنت بخير؟ هل تحتاج إلى مشفى؟" هكذا ردهم المبدئي.
" نعم، أنا بخير ولا أحتاج مشفى" أجاب فارس.
ثمَّ بدأ الرد الأوتوماتيكي بالخطوات التي يجب عليه فعلها في هذا الموقف وكيفية تقييم المحادثة.
اتجه فارس وهو يجر دراجته، رافعاً إياها من الأمام إلى أن وصل المحطة الغربية، ونزل ليأخذ الخط الثالث من قطار الأنفاق. دخل من الجهة الأمامية للقطار المزدحم في يوم السبت. كان فارس قد تعود ألا ينظر إلى الناس في القطار وبالطبع ألا يتحدث مع أحد. هذه هي القاعدة هنا. لكن في هذا اليوم، نظر إلى الناس وحاول أن يدرك كيف تغيّر الوضع وأصبحت الناس تتحدث إلى بضعها وتبتسم وتضحك، وكأن التواصل بين الناس محصور فقط بالعطلة.
وصل شقته، وتذكر أن طلب الزبون كان لا يزال في حقيبة حفظ الطعام: شاورما تركية مع سلطة. فأكله، وذهب للسرير. حاول أن يسترخي، ويرتب في ذهنه أحداث ذلك اليوم، وعندما وصل للحظة الحادث لم يتذكره! إنما تذكر حادثاً حصل له عندما كان في التاسعة من عمره: كان يجلس خلف دراجة هوائية يقودها صديق أخيه الكبير من رأس الحارة نحو منزلهم، فعلقت قدمه في أسياخ الدولاب الخلفي، وصرخ بشدة "بااااااباااااا".
تضبّبت ذكريات فارسٍ، وربما كان سبب ذلك دمعة نزلت على خده.
استمر في إغماض عينيه حتى نام نوماً عميقاً.
***
كان فارس يعلم أن المتاجر ستكون مغلقةً يومَ الأحد. على الرغم من ذلك، خرج من منزله وبيده الدولاب المعوج. الطقس كان، كما في اليوم السابق، جميلاً، مما جعل المدينة مزدحمة بالناس مع القليل من السيارات في الشوارع.
بدايةً، ذهب فارس إلى متاجر الدراجات الهوائية في الحي الذي يسكن فيه، ففقد الأمل أن يجد استثناءً في نظام الحياة هنا، فعاد أدراجه إلى شقته. عندما وصل إلى شارع يون، قرر أن يتابع المشي، ولم يكن يعلم أين هي وجهته!
كان ينتقل من شارع إلى آخر، ناقلاً الدولاب المعوج من يد إلى أخرى. وصل الحي السابع، وتوقف للحظة لينظر إلى متجر متخصص فقط في عبوات البهارات، ثم أكمل طريقه إلى أن وصل ساحة المتحف. من هناك، اتجه إلى حديقة قريبة منه. جلس على العشب، وسند ظهره إلى شجرة كبيرة، وراحت عيناه تحيط بكل الحديقة حتى توقفت عند مجموعة من الراقصين يرقصون أمام كاميرا عند بركة الماء.
كان الراقص في وسط المجموعة مغمضَ العينين، ويرقص دون أي قيودٍ، معتمداً على حماية المجموعة له من أن يصطدم بأي شيء. أعطى هذا المشهد فارس شعوراً مبهماً، كما لو أنه كان ذاك الراقص، ولكن دون مجموعةٍ تحميه.
عاد فارسٌ إلى شقته، وفي المساء بعدما استطاع أخوه الكبير أن يدفع فاتورة الإنترنيت تحدث مع ابنته عبر مكالمة مرئية طويلة، كان يضحك فيها كثيراً للفوازير التي كانت تلقيها عليه.
***
أنفق فارس كل نقوده على إصلاح دراجته. كان كل ما يتمناه الآن هو أن يعطيه الزبائن الإكرامية باليد وليس أونلاين، حيث يحصل عليها بعد شهر ونصف مع أجره. الإكرامية هنا في فيينا يطلق عليها اسم "نقود الشراب"، ولكنها بالنسبة لفارس كانت "نقود الطعام!"
كانت السماء رمادية وتخزن في داخلها كماً هائلاً من الأمطار. عمل فارس مترقباً انهمارها، وعندما كان في الحي التاسع عشر، أفرغت الغيوم ما بداخلها. لا بد من الإشارة إلى أن فارس كان قد سبق له أكثر من مرة العمل تحت مطرٍ غزيرٍ. لكنه لم يشعر بتلك القسوة التي شعرها ذلك اليوم، لأن المطر كان يهشم ذكرى جميلة لديه عندما كان طفلاً يقفز مع صديقه في برك الماء ويضحكون ويهتفون بعبارات حفظوها من بعض أفلام الكرتون.
بعدما انتهى من العمل، أول شيء قام به فارس هو التواصل مع شاب كان دائماً يلجأ إليه عند المشكلات المتعلقة بمعاملات مع مكاتب الدولة. هذا الشاب يدرس الطب ويعمل متطوعاً في منظمة إنسانية.
أطلعه فارس على ما حصل معه، وكان صوته خلال المكالمة يرتجف.
حاول الشاب أن يهدئ من روعه: "هناك اتحاد يحمي حقوق السائقين، مثله مثل نقابة العمال، ولن يدع شركةً تأكل حق العامل. حدد موعداً في الغد واذهب إلى هناك".
شعر بالقليل من الأمل بسبب تجربته مع نقابة العمال في سورية.
***
أثناء حديثه مع الشاب المتطوع، وصل إشعار من البنك باستلام أجره. بدأ فارس بالتفكير بالتراجع عن موضوع طلب مساعدة الاتحاد. لكنَّ ما حرَّض فارس على الدخول في مواجهة الشركة هو إصرار الشاب المتطوع على أنها مسؤولة عن دفع غرامة تأخيره في سداد القرض. ربما كانت أول مواجهة لفارس، أول مرة يصرخ: "أنا عامل، وكل ما أملكه هو قوة عملي، وأعلم أنني بعتكم إياها، ولكن هذا لا يعني أن أسمح لكم بالضغط على حياتي، وتحويلها إلى رابوص! لن أسمح لمرض سلطتكم المالية بشل حياتي.


حسين خضّور، كاتب وفنان سوري مقيم في فيينا. درس سنتين في المعهد العالي للفنون المسرحية قسم الرقص. يتركز عمله الفني في المسرح الجسدي والإبداع الأدبي.