بعد أعوامٍ وأحزانٍ عقيمة
وخلافاتٍ وآلامٍ قديمة
حين تأتينَ إلى بابي مساءً
تحت صمتِ الشوقِ دون موعدٍ من قبل
ثُمَّ ترحلينَ مثل ضوءِ البرقِ مع آخرِ غيمة
دونَ أن تتركِ من خلفكِ لو حتَّى رسالة
أو حضوراً أو غياباً أو سؤالا
وأنا أشربُ وحدي قهوتي
في المساءِ المتعَبِ الباردِ في اسطنبولَ
أشتمُّ عطوراً ودموع
أشتمُّ تاريخاً تعيساً وقلوع
أشتمُّ حزناً .. هو يا سيّدتي
أروعُ حزنٍ في الوجود
هو بابٌ فوق آفاقِ الأغاني
فوق جدرانِ الحدود
أسمعُ اسطنبول تهذي بكلامٍ عربي
لم أعد أعرفُ ما يجري فأجري
مثلما يجري ملاكٌ ثائر
مثلما يجري الكلامُ الحرُّ في دفترِ شاعر
ثُمَّ أبني فوقَ وجهِ البدرِ بدري كنبي
لم أزل أحفظُ وجهي
لم أزل أذكرُ أمي
لم أزل أعرفُ أني
كنتُ في ذاتِ زمانٍ عربي
كنتُ طفلاً في دمشق الياسمين
كنتُ أطفو مثل موسيقى شجونِ المندولين
كنتُ غصاً لم يزل فيّ نديّاً
لم يزل فيّ كما كان صبي
وهنا ..
لم أزل أسمعُ من كل مكانٍ
صوتَ أجدادي الخيول
داخلي.. حولي.. ورائي ..
مثل مسٍّ من ذهول
عائماً كالليلِ في ليلِ اليتيمة
وأرى اللَّهَ، إلهي، في مآقيكِ الكريمة
ها هنا أشعرُ أنَّ الحُبَّ قد صارَ جريمة
والعيشَ قد صارَ جريمة
والموتَ في أوطاننا
في داخلِ "الرتمِ" الطبيعيِّ جريمة
ها هنا في لحظةٍ حين تمرين أمامي
بين أحشاءِ فؤادي
وأرى في وجهكِ الوجهَ الذي
ما زال يطفو فوق أنهارِ بلادي
مثلما يطفو الغمام
الوجهَ الذي ما زال يعطينا
زهوراً وكروماً وشعوراً بالسلام
حينها ..
تنبتُ من حولي ورودُ الشام
وأكاليلُ دمشق
يا لقلبي من دمشق!
حينها تولدُ آلافُ الفراشاتِ ببيتي والحمام
وتصيرُ الأشجارُ في الميلادِ ليلاً "أَكْلَ دُنيا"
ويصيرُ الثلجُ مثلي
في ليالي شهرِ ديسمبرَ أدفى
ويصيرُ الحزنُ منفى
ودموعي برتقالة
وشعورُ الخمرِ يغدو بعد كأسينِ ضئيلا
وارتعاشُ الجنسِ وحياً فوق نهديكِ جليلا
وهنا أعرفُ أنَّ الأمسَ
كان الأروعَ الأكملَ مذ مليونِ عامٍ
كان من أجملِ أيامِ حياتي لا مَحَالة
وتساءلتُ وقلبي غارقٌ في الحيرة:
كيف يا حسناءُ يا بيضاءُ يا أحلى أميرة
كيفَ يغدو العطرُ مرسالَ غرامٍ متعِبٍ؟
كيف يغدو قاتلاً مُستأجَراً
كيف يغدو المرءُ مكسوراً أسيرا
ما الذي يفعلُ ذاكَ الحُبُّ فينا
ما الذي غيّرنا.. بدّلنا
ولماذا بيدينا
نطعمُ الحزنَ كلينا
ولماذا حين أعطيتكِ قلبي
فيهِ نفّذتِ ملايينَ الجرائم
واتخذتِ حالةَ الحُبِّ قناعاً
ثُمَّ أطلقتِ من الموتى الحمائم
كيف زوّرتِ كتابَ الحُبِّ كيفَ
وجعلتِ الشامَ بغداداً
وفصلَ البردِ صيفَ
وجعلتِ العشقَ سجناً
وجعلتِ الوردةَ الحمراءَ سيفَ
كيف غيّرتِ الرأي العامَ بيسرٍ وسهولةْ
كيف قد مثّلتِ دورَ الرسولةْ
كيف عدتِ
وبعطرٍ من وراءِ البابِ مرشوشٍ
قد استطعتِ لملمةَ هذي القضيّة
واحتلالي .. وفؤادي من جديدٍ
وبطشتِ
وقتلتِ
ثمّ أحييتِ القتيلا
كيف يا شقيّة؟
كيف يا شقيّة؟
بشر شيب، شاعر سوري مقيم في تركيا.