صدر في منتصف شهر حزيران من العام الحالي ديوان للشاعر السوري الشاب بشر شبيب تحت اسم "نصفها في الشَّام ونصفها معي" عن ماتيا برس للنشر.
يدق الشاعر من خلال أسلوبه بابا نادرَ القصدِ في تاريخ الشعر العربي، إذ يجاري سرعة الوقت الإلكتروني الذي نعيشه بضربات شعرية خاطفة مكثفة ومتتالية كمقاطع الـ "ريلز" القصيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، مخلصا اللغة من الحشو وأقمشة البلاغة الفائضة، ومخاطبا فئة مختلفة من القراء، كما يقول في مقدمته "إلى الذين لا يقرؤون الشعر".
يقع الكتاب الشعري الأول للشاعر في نحو 65 صفحة من القطع الصغير يضمها غلاف مصمم بعناية وحرص فائقَين لكي يعكس للقارئ ما يحتويه بين دفّتيه، حيث تظهر فتاة تحمل معالم دمشق القديمة داخلها من مآذن وياسمين وحمام دمشقي فوق خصلات شعرها المنساب في إشارة إلى موضوعات الديوان، التي تناولت ثنائية الحب والحرب، وانفصال المثقف العربي عن واقع مجتمعه وآلامه الحقيقية، والاغتراب والشوق إلى مسقط القلب الأول والحب الأول والقصيدة الأولى.
كما تطرق الشاعر الشاب إلى قضايا أخرى يعاني منها إنسان القرن الواحد والعشرين كسيطرة التكنولوجيا على الكيان الإنساني، والأمراض النفسية مثل ثنائي القطب والاكتئاب، ويتساءل:
"هل يكملُ الإنسانُ يا عزيزتي
من غير موسيقى واكتئاب؟"
كما لا يغيبُ عنه تناول الاستبداد السياسي، وسؤال الهوية، وجوانب أخرى اجتماعية، سلطت القصائد الضوء عليها وحملتها إلى القارئ العربي كما هي ليواجه ما يفر كثيرون من مواجهته؛ الحقيقة.
نرى توجس الغريب الخائف من المجهول المتربص به، الناجي الذي فقد أحباءه إثر الحروب، في كلمات الشاعر حين يقول:
- تقولُ لي: "الموتُ لا يحبنا
قد زارَ كلَّ من نحبهم
لكنّهُ للآن لم يزورنا"
فيجيب الشاعر على السؤال القاسي المبني على انصهار حالة اليأس في أعماق أعماق السائلة بتشاؤم أكبر ينبع من رفض الجميع لوجوده:
- أجبتُها: "من حقهِ،
فنحنُ من يحبنا؟"
حتى الموت أصبح يرفض اللاجئ ولم يعد الأمر مقتصرا على بعض الأطراف والأحزاب السياسية، كما نرى في المقطع الشعري. لا يرضى الشاعر بالهزيمة أمام استهداف هويته وماهيته وحقيقة مقدَمِه من بلاد متعَبة، ليعلن للجميع أنه واحد من مئات ألوف اللاجئين، وسيبقى كذلك:
"ما كنتُ إلا واحداً من هؤلاء الطيبينْ
لا ورقة من أي أرضٍ
سوف تُنسيني شعوري
واحداً من هؤلاءِ الأنبياءِ اللاجئينْ"
ويبقى الأمل حبلا متينا، يشدنا منه فجأة من قاع الخوف إلى فسحة الحلم الرحيبة بأرض لا يُسأل مَن فيها مِن أين أتى:
"أحلمُ بالحياةِ في دفاتري
كالحبرِ أو كالخط
هناك لا من يزعجُ الليلَ الرمادي
أو يسألُ الألفاظِ عني
مَن أنا؟
مِن أين؟
مِن أي البلادِ؟"
أما حديث الحُب والعشق فيحضر في ديوان نصفها في الشَّام ونصفها معي في مواضع عدة، إذ يأتي بشر على ذكره مرتبطا بالحزن كدافع ومحرك أول للعملية الإبداعية والوجود الإنساني، متبعا بذلك مذهب معظم أدباء وفناني العالم الذين حفروا أسماءهم عبر أعمالهم فوق جدار الذاكرة البشرية:
"متى أنا حزنتْ
تدفّقت أنهارُ هذا الحزنِ من جوانبي
وانصهرتْ أرجاءُ هذا الكونِ في مشاعري
وصارَ ما يُدعى لدينا الشِّعرْ
متى أنا حزنتْ
أحببتُ فيكِ وجهكِ الحاني
ولم تعد حياتُنا محدودةً بعُمرْ"
ومن بين الفرح والحزن، اليأس والأمل، الضعف والتظاهر بالقوة تنتأ دمشق كوردة من جدار متهالك، وجرح غائر في قلب الشاعر الذي يصرّح في مقدمة الديوان بانتمائه لها وبدايته منها:
"وأنا دمشقيٌّ ولدتُ من الندى
والياسمينِ .. براعماً وأزاهرا"
ليتمنّى الانتهاء إليها والنوم في أحشائها إلى الأبد:
"أحتاجُ أن أُدفنَ تحت ظلِّ ياسَمينةٍ أو فُلَّةٍ
في ذاتِ ليلٍ ماطرٍ كالآن لكن في بلادي
في دمشقَ الشام
أنا الذي من ألفِ عامٍ واقفٌ
قد آنَ لي الأوانُ كي أنام
قد آنَ لي الأوانُ كي أنام"
كما يستبد به الشوق معاتِبا عتب العاشق المُبعد:
"بلادنا ..
بلادنا ..
بلادنا البعيدةْ
هل كلما استذكرتُ فيكِ فرحةً
وجدتها فقيدةْ!
بلادنا.. كم تتكبّرينَ فوق جرحنا
لأنكِ ..
بلادنا..
بلادنا الوحيدةْ"
هنا نلحظُ في تكرار لفظة "بلادنا" قوة العتب وشعور التقمص والتوحد بالأرض التي أزهرت فيها حضارات العالم القديم والأبجديات والفنون.
ينتهي الديوان وقد أيقظ في القارئ أسئلةً ومشاعر طمرتها رتابة الحياة الحديثة، إذ يحس من يبلغ الصفحة الأخيرة بحاجة إلى إعادة التهيئة والبدء من جديد، من حيث كنا صغارا نضج بالمعنى، نُدهش بالطير والنملة وأشعة الشمس، ونتمتع بقدرة على الحب لا متناهية.
يمكن تحميل ديوان نصفها في الشام ونصفها معي مجاناً من موقع ماتيا عبر هذا الرابط. يمكن أيضاً شراء الكتاب بنسخة ورقية من أمازون عبرهذا الرابط.