الهجوم نحو الرّيح — حسين خضّور

"القراءة،" قالها عندما زاره الخوف. وبالفعل أمسك روايةً كانت في الماضي قد احتلّت مكاناً ثانوياً في مكتبته.

كان رجلاً أضنته الشيخوخة. أغمض عينَيه، مُدركاً على الفور أنّه غيرُ قادر على إكمال القراءة، ليس بسبب شعوره بالارتباك أمام الجملة الأولى في الرواية، وإنما لِعجز دماغه عن الانتقال إلى الجملة التالية. مردُّ ذلك هو سبب ونتيجة في الوقت ذاته—هجمةٌ نفسيَّةٌ فصاميّة تعرَّضَ لها، تمزَّقَت على أثرها أنسجة دماغه.
نظر إلى النافذة المفتوحة في غرفته، وحدَّقَ بالشقّ الموجود بين كتلتي الإسمنت. هناك كان البحر أضيق من مداه. اشتدَّ به شعورُ الضيق، فخرج إلى غرفة المعيشة. كان والدُه المسنّ على وشك تناول الفطور، وكما جرت العادة، لم يكن يضغط على ابنه حتى يخرج من غرفته ليشاركه الإفطار.
كانت نظرة الأب نحو ابنه ممتلئةً بالحب الداعم، وكأنّ الأخير كان طفلاً قد خطى خطواته الأولى.
أثناء تناول الفطور، قال أرنست لوالده المسن: "سأخرُج كلَّ فجرٍ أمشي بين البساتين المطلّة على البحر، وفي المساء، قبل تناول الدواء، سأقرأ جملةً من راوية الشيخ والبحر." ربما كان ذلك أفضل! حتى لا يدخل الدواء المخدّر إلى دماغٍ فارغٍ.
***
كان دماغُه يتعافى مثل الجرح الملتئم، وزادتْ جرعةُ القراءة عند المساء من جملةٍ إلى صفحة، وانخفضتْ جرعةُ الدواء من ست مليغرامات إلى أربعة.
تطوَّر خطابُه الداخلي أثناء السير الممزوج بخطواته على التراب مع صوت الموج.
كان يغنّي أحياناً مطلع أغنية فيروز بشكل معكوس:
صباح ومسا.. شي ما بينتسى
تركت الأسى.. وأخذت الحب
***
خلال سنة، لم يتغير واقع أرنست، ولكنَّ شعورَه تجاه الواقع قد تغيّر، وربّما لو لم يتغير ذاك الشعور لكان قد هشَّم جمجمةَ رأسه برصاصةِ بندقية.
عندما وصل إلى منتصف الرواية، قرَّر أنْ يعملَ في بستان ابن عمّته، وبالفعل نفَّذ قرارَه. أصبح الآن خطابه الداخلي مترابطاً مع ثلاثة أمور أساسية: التواصل مع البحر فجراً، العمل في البستان صباحاً، والقراءة قبل الدواء المخدِّر مساءً. حتى وصل إلى اليوم، أو نستطيع القول إلى آخر صفحة من الكتاب. "وماذا فعل؟" ربما تسأل. أقول لك إنه تناولها بعد موعدها؛ قرأها بعد تناول الدواء، وربما ثبّط مفعوله، فلم يخرج من غرفته، واكتفى برؤية كتلتي الأسمنت، شاعراً بالبحر يناشد مداه. لأول مرة منذ زمن بعيد كَتَب، وكأنَّه قد تعلَّمَ الكتابة للتوّ، فكان خطُّه على الورقة مثل خطّ إنسان بدائيٍّ حفَرَ كلماتِه على صخرةٍ قديمة صارعَت ضربات الموج:
صراعُ شعوبٍ تحرَّكَتْ، ولم تُنَظِّم ثورَتَها بعد... صراعٌ بشريٌّ ضدَّ وباء، ولم ينتهِ بعد... حربٌ فرَّقتْ عائلة، ولم يكتمل لمُّ شملهم بعد... أمّ وأب وجدا نفسيهما دون عمل، وأطفالهما لم يشتدّ عودهم بعد... شبابٌ تحطَّم حلمهم، ولم يكملوا الطريقَ بعد... إنسانٌ أنهكَه مرضٌ مزمن، ولم يجد علاجاً له بعد... كلُّ هذه الأشكال وأكثر لها محتوى واحد: صراع الإنسان ضدّ العجز. الأمرُ بسيطٌ عندما نَخرجُ منه، ومعقَّدٌ عندما نكون في داخله... فهناكَ من يركّز على العجز ويضخّمُه، وهناك من يركِّزُ على الإنسان ويدعمُه. ولكن ما هو العجز؟ أليس هو شكلٌ يعبر عن محتوى توقُّف التقدُّم. ومَن هو الإنسان؟ أليس شكل يعبرّ عن محتوى التقدُّم في كفاحِهِ لتحقيقِ إنسانيّته؟ إذاً الأمرُ بسيط... مَن مَنَع الإنسان مِن التقدُّم؟ مَن أفرَغَ الشَّكل من محتواه؟
كلنا لدينا تجربةٌ مع العجز، وأيُّ انتصارٍ عليه وعلى مَن له مصلحةٌ في دعمِه هو بمثابة خطوةٍ نحو عودة الإنسان لطبيعته، نحو عودة الحياة للنهر المتجمِّد.


حسين خضّور، كاتب وفنان سوري مقيم في فيينا. درس سنتين في المعهد العالي للفنون المسرحية قسم الرقص. يتركز عمله الفني في المسرح الجسدي والإبداع الأدبي.